التسويق في عصر الذكاء الاصطناعي.. من استهداف المستهلك إلى بناء «البصمة الإدراكية»

ريان الطعيمي، الرئيس التنفيذي – مجموعة فوج، يسلط الضوء في هذا المقال على آليات التوظيف الأمثل للأتمتة في التسويق من دون أن تفقد العلامة التجارية جوهرها الإنساني، مؤكداً أهمية دور القيادة التسويقية في المحافظة على البُعد الإنساني في إطار التجربة الذكية.

ريان الطعيمي، الرئيس التنفيذي؛ مجموعة فوجريان الطعيمي، الرئيس التنفيذي؛ مجموعة فوج

تتسارع الابتكارات في وقتنا الحالي، وتضيق فيه المسافات بين العلامات التجارية والمستهلكين، ولم يعد النجاح في التسويق مرهوناً بمدى الوصول للمستهلكين، بل بأعمق فَهْم للسوق واحتياجاته. هذه النقلة النوعية أتاحها الذكاء الاصطناعي الذي تجاوز حدود الأدوات والأنظمة ليُعيد تعريف مفهوم العلاقة بين العلامات التجارية وجماهيرها. في ظل هذا التحول، تبرز الحاجة إلى قيادة تسويقية قادرة على مواءمة الحس الإبداعي مع العقل الخوارزمي، وفَهْم السوق المحلي من منظور عالمي.

قبل عقد من الزمن، كان التسويق محصوراً في بناء الرسائل وتوجيهها لشريحة سكانية محددة. أما اليوم، فلم يعد المستهلك مجرد مُتلقٍّ للرسالة وحسب، بل أصبح شريكاً في تشكيلها وتقييمها في كل لحظة. كذلك لم يعد «الاستهداف» كافياً، بل أصبح المطلوب «إدراك» ما يريده المستهلك، ولماذا؟ ومتى؟ وكيف يفضل أن تصله الرسالة؟

في هذا المضمار التحليلي، برز الذكاء الاصطناعي بوصفه مُحركاً لإعادة تصميم التجربة التسويقية، من خلال تحليل ملايين نقاط البيانات لفَهْم سلوك المستهلك، بشكل يمكن التنبؤ به وتخصيصه، ما يؤسس لمفهوم «التسويق في عصر الذكاء الاصطناعي».

فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل رافعة استراتيجية لبناء علاقات تسويقية أكثر فعالية واستدامة.

الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل القيمة

تكمن عبقرية الذكاء الاصطناعي في قدرته على إعادة توجيه مركز الثقل التسويقي من المنتج إلى تجربة غامرة، ومن الإعلان التقليدي إلى تفاعل ديناميكي، ومن الرسائل العامة إلى تخصيص دقيق يلبي احتياجات الأفراد.

ويؤكد تقرير صادر عن «ماكنزي»، أن الشركات التي تعتمد على التخصيص المدعوم بالذكاء الاصطناعي تحقق نمواً أسرع يفوق منافسيها بنسبة 40%.

لم يعد تخصيص المحتوى كافياً، إذ إن التحدي الحقيقي يكمن في استباق رغبات المستهلكين، وهنا تتجلى أهمية البيانات الدقيقة المدعومة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي يمكنها الكشف عن أنماط خفية في سلوك المستخدمين وتقديم عروض شخصية قبل أن يتنبه المستهلك إليها. على سبيل المثال، تعتمد منصات مثل «أمازون» و«نتفليكس» على أنظمة توصية ذكية لا تكتفي بإظهار ما هو شائع، بل تسعى لتقديم ما يناسب كل مستخدم على حدة، بناءً على أنماط تصفحه وتفاعلاته الدقيقة.

معضلة التوازن.. ذكاء الآلة مقابل الإنسانية

مع هذا التطور المبهر، يبرز سؤال جوهري؛ كيف يمكن توظيف الأتمتة من دون أن تفقد العلامة التجارية جوهرها الإنساني؟ فالذكاء الاصطناعي، رغم كفاءته العالية، يفتقر إلى العاطفة ولا يدرك الرموز الثقافية العميقة إلا بقدر ما يُلقّن. وهنا، يأتي دور القيادة التسويقية في المحافظة على البُعد الإنساني في إطار التجربة الذكية. وفي المملكة العربية السعودية، حيث يقود التحول الرقمي مشهداً جديداً، يمكن القول إن المستهلك السعودي أحد أكثر المستخدمين الرقميين وعياً وتفاعلاً.

التوأم الرقمي للمستهلك (Consumer Digital Twin)

يمثل هذا المفهوم قفزة نوعية في فَهْم السلوك، حيث يتم إنشاء نموذج رقمي يحاكي العميل بدقة، بناءً على بياناته وتفضيلاته، ما يتيح للعلامات التجارية اختبار سيناريوهات مختلفة وتوقّع ردود أفعال المستهلك قبل إطلاق أي حملة.

التجارب الغامرة (Immersive Experiences)

بفضل تكنولوجيا الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR)، أصبحت العلامات التجارية قادرة على بناء بيئات تفاعلية حسيّة تتيح للمستهلك تجربة المنتجات أو الخدمات افتراضياً قبل الشراء. ويُسهم هذا النوع من التفاعل في تعزيز الثقة والانخراط، خاصة في مجالات تعتمد على تجربة الاستخدام، مثل الأزياء والسيارات والعقارات.

دور القائد التسويقي الجديد

في خضم هذه التحولات، لم يعد دور مدير التسويق يقتصر على تنفيذ الحملات، بل أصبح مهندساً لتجربة المستهلك، وصانعاً لرؤية تستند إلى الفَهْم العميق، ومحفزاً للابتكار داخل أي مؤسسة. التحدي اليوم ليس في امتلاك الأداة، بل في صياغة رؤية تسويقية تجعل الذكاء الاصطناعي امتداداً للبصيرة الإنسانية، لا بديلاً عنها. ولضمان استفادة فعلية ومستدامة في السوق السعودي، يجب ألا يقتصر الأمر على تبني أدوات الذكاء الاصطناعي، بل لا بد من تحوّل حقيقي في أسلوب التفكير التسويقي ذاته.

وانطلاقًا من هذا الفَهم، نوصي بمجموعة من الركائز التي أثبتت فعاليتها عالمياً، ويمكن توطينها بنجاح في السوق السعودي، وهي بناء منصات بيانات موحدة؛ والاستثمار في فرق تسويق متعددة التخصصات؛ واعتماد نماذج تعلم مستمر؛ وأخيراً، دمج الذكاء الاصطناعي في كامل رحلة المستهلك.