هل فقدت الإعلانات بوصلتها أمام هوس جذب المتلقي؟

في خضم ثورة المعلومات عبر منصات التواصل والتنافس على جذب المتلقي، يطلق ربيع حوري، مدير عام قطاع الإعلان في شركة هورايزون اف سي بي، تحذيراً من الانجرار خلف متاهات هذا السباق، مشيراً إلى خطورة فقدان الإعلانات لبوصلتها الحقيقية والتحول من الإبداع الحقيقي إلى هوس الوصول السريع والترند، وتقديم محتوى يفتقر إلى القيمة والإبداع والإلهام، ومقدماً وصفة ناجعة لتقنيات الإعلان الناجح.

ربيع حوري، مدير عام قطاع الإعلان؛ شركة هورايزون اف سي بيربيع حوري، مدير عام قطاع الإعلان؛ شركة هورايزون اف سي بي

يفرض عالم التقنيات المعاصرة والتدفق السريع لبيانات منصات التواصل الاجتماعي حسابات جديدة في مقاييس نجاح الإعلانات وفشلها في ضوء المعايير المستحدثة التي أثبتت حضورها لدى المتلقي، والتي تركز على عنصر «الصدمة» ولفت الانتباه بأي شكل، وهو ما يعبر عنه بـ«عصر الريلز» سواء على تيك توك، سناب شات، إنستغرام أو غيرها من منصات التواصل الاجتماعي، وهو عصر المحتوى القصير والانتباه الأقصر. وأصبحت الفكرة السائدة اليوم تشير إلى أنه إذا لم تجذب الانتباه خلال أول ثانية فقدت الفرصة، وإذا لم تصبح «ترند» فهو غير مهم، وإذا لم تُثر حملتك الجدل فقد أهدرت ميزانيتك.

قد تكون هذه الفكرة صحيحة جزئياً من الناحية التقنية. لا شك أن المنصات تغيّرت، وتقلصت مدة الإعلانات، والتركيز الذهني للمستخدمين في أدنى مستوياته. لكن المشكلة الحقيقية ليست في المنصات أو طرق استخدامها، بل في ردّة فعلنا كمعلنين تجاه هذه المتغيرات. فقد أصبحنا ننتج أعمالاً لا تهدف إلى بناء العلامات التجارية أو إيصال رسائل ذات معنى، بل جلّ مجهودنا ينصبّ على خداع الخوارزميات، وركوب الموجة، وجذب الانتباه بأي ثمن. فنحن نشهد تحوّلًا من الإبداع الحقيقي إلى هوس الوصول السريع والترند، وتقديم محتوى يفتقر إلى القيمة، والإبداع والإلهام.

عندما يتحول المحتوى الجريء إلى هدام

في مجالنا، خاصة في الأسواق سريعة النمو، نرى العديد من الحملات التي تخلط بين الجرأة والهدم. وقد شهدنا حملات لعلامات تجارية ترمي ما بنته من قيمة عبر عقود، فقط من أجل رسالة تلفت الانتباه على لوحة إعلانية، أو «هاشتاغ» على منصة إكس، أو مقطع فيديو مدته خمس ثوانٍ لا يلبث أن يختفي أثره اللحظي بالانتباه ليستبدل بأثر سلبي يبقى لزمن. قد يكون كسر القواعد الإعلانية أحياناً جوهر الإبداع، لكن دون تجاوز الركائز الإعلانية. القواعد تتغيّر باستمرار، أما الركائز فتبقى. فهي مبادئ ثابتة تُدرّس في أساسيات علوم الاتصال وأثبتت فعاليتها عبر الزمن. رأينا كيف نجحت هذه الركائز في التلفزيون في الثمانينيات، وفي الصحف في الستينيات، وما زالت – للمفاجأة – تنجح على منصات التواصل اليوم.

دعوة للعودة الى الركائز والأساسيات

دعونا نَعُدْ إلى الدراسات العلمية، إلى المشاهدات والاستنتاجات، إلى فَهْم ما يفكر ويشعر به المستهلكون، لا إلى ما يتصدّر الترند أو يعكس الأهواء الشخصية التي يصعب تعميمها. لنستذكر أن الهدف الإعلاني ليس نيل إعجاب المدير التنفيذي ولا لجمع الجوائز، بل وظيفة أسمى؛ أن يحرّك مشاعر الناس، وأن يتواصل، وأن يترك أثراً اجتماعياً إيجابياً، وأن يحقق نتائج – من دون التخلي عن الإبداع أو الثوابت.

كشخص نشأ في الثمانينيات والتسعينيات، ما زلت أتذكّر إعلانات بقيت في ذهني حتى اليوم، وما زال قراري الشرائي مرتبطاً بها بسبب القيمة الحقيقية التي بنتها تلك الحملات. كانت ذكية، مضحكة أحياناً، وأسطورية ببساطتها. نخضع اليوم للتأثير النفسي لوسائل التواصل، فأصبح الأثر على العمل الإعلاني واضحاً، إذ يُصمّم لتحفيز الدوبامين وإبقاء الانتباه مشدودًا، لا لبناء العلامات التجارية. أصبح يُصمَّم ليتماشى مع الخوارزميات، لا ليؤثر في الناس.

مسؤولية المعلن.. الالتزام المهني يبدأ بالفعالية دون الجرأة

في «هورايزون إف سي بي» (Horizon FCB)، نطبّق الالتزام المهني من خلال مبدأ «الفعالية الإبداعية». كل عمل يتم تقييمه باستخدام أداة تقيس فعالية الأفكار على مقياس من 1 إلى 6. من خلال هذه الممارسة، نتجنّب الأفكار التي تُقيَّم بـ 1 أو 2 أو 3 – لأنها ببساطة غير مقبولة؛ إما مؤذية، أو لا تحقق ارتباطاً مع الجمهور، أو غير مناسبة. أما الأفكار التي تسجّل 4 أو 5 أو 6، فهي التي تلهم وتُثقف وتبني ارتباطاً، وفي النهاية تحقق نمواً وعائداً إيجابياً، سواء على المدى القصير أو الطويل.

إن التزامنا المهني ليس ترفاً إبداعياً، أو مجرد روتين. بل هو منهجنا في تحميل أنفسنا المسؤولية تجاه الارتقاء بالرسالة الإعلانية، تجاه ترسيخ الإبداع والإلهام. ما يثير اهتمام الجمهور والعلامة التجارية نظام بسيط، لكنه فعّال. وفي أحد أكثر الأسواق الإعلانية تطوراً وازدهاراً، مثل المملكة العربية السعودية، حيث تُبنى علامات تجارية في وقت قياسي، يصبح هذا الالتزام أكثر أهمية من أي وقت مضى.

لا يمكن استعارة ما هو مناسب في سوقٍ آخر وإسقاطه، أو مجاراة ترند. بل من الواجب على المعلنين َفهْم الجمهور عبر الاستماع له، وبناء استراتيجيات تواصل حقيقية ترتكز على فهم عميق للثقافة والتنوع، تخلق أفكارًا تصل، لا فقط تُقلّد.

الجرأة الحقيقية تكمن في الالتزام المهني والتقيد بالركائز الصحيحة

في عالمٍ مهووس بالسرعة والتواصل المستمر، نتلقّى فيه العديد من الرسائل الإعلانية يومياً، فإن الجرأة الحقيقية هي التأنّي، وأن نتعمّق، وأن نسهم في بناء علامات تجارية نوعية، تخاطب العقول والقلوب، لا مجرد ردود الأفعال اللحظية.

عندما يهدأ الصخب الإعلاني وتتلاشى الأرقام، فإن ما يبقى هو العمل الحقيقي المستند إلى أساس ذي قيمة، يصل إلى الجمهور بإبداع دون اختصارات؛ فالغرض الحقيقي من الإعلان، ليس فقط ما نقوله، بل ما نتركه من أثر إيجابي.

وعندما يختفي الترند والتفاعل، يبقى الارتباط الذي تكوّن مع العلامة التجارية.. القصة التي تُروى عنك.. الثقة التي اكتُسبت، أو فُقدت.. وحتى يحدث ذلك، علينا أن نتجاوز النتائج قصيرة المدى والتكتيكات اللحظية. علينا أن نؤمن بأن العمل العميق النابع من فَهْم حقيقي للجمهور، والمُقدَّم بأصالة، سيتفوّق دائماً على الترند. هذه ليست تقنيات قديمة، هذه تقنيات الإعلان الناجح.